الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
وهذا يكون موقف أهل النار؛ لذلك يقول: {أَلاَ سَاءَ مَا يَزِرُونَ} ونعلم أنهم لا يحملون أوزارًا فقط بل يحملون من أوزار الذين اتخذهم قدوة له، فهذا وزر الإضلال ويعرفون- جميعًا أن حمل الوزر يتجسد في الإحساس بعبئه؛ فقد قادتهم هذه الأوزار إلى الجحيم، ونعلم أن نتيجة كل عمل هي الهدف منه، فمن عمل صالحًا سيجد صلاح عمله، ومن أساء فسيجد عمله السيء.إننا نرى الأمثلة العملية لذلك في حياتنا اليومية؛ فهذان شقيقان يعملان بالزراعة، وكل منهما يملك فدانين من الأرض مثلًا: الأول منهما يقوم مع طلوع الفجر ليعتني بأرضه ويحرثها ويحمل إليها السباخ ويعتني بمواقيت الري ويسعى إلى يوم الحصاد بجد واهتمام. والاخر يسهر الليل أمام شاشة التليفزيون، ولا يقوم من النوم إلا في منتصف النهار، ولا يخدم أرضه إلا بأقل القليل من الجهد.ثم يأتي يوم الحصاد فينال الأول ناتج تعبه من محصول وفير، وينال الآخر محصولًا قليلًا بالإضافة إلى الحسرة التي يتجرعها بسبب إهماله وكسله. إذن فالعاقل هو من يدرس ما تعطيه حركته في الحياة. ويختار نوعية الحركة في الحياة بما يضمن له سعادة الدنيا والآخرة، واطمئنان النفس في الدنيا والآخرة.إن من ينام ولا يذهب إلى عمله هو إنسان يحب نفسه، ومن قام في بكرة الفجر إلى عمله يحب نفسه أيضًا، ولكنّ هناك فارقًا بين حب أحمق عقباه الندم، وحب أعمق لمعنى الحياة وعقباه الجزاء الوافر. اهـ.
والألف واللام في {السَّاعة} للغَلَبِة كالنَّجْم والثُّرَيَّا؛ لأنها غلبت على يوم القيامة، وسِّمَيتِ القيامَةُ سَاعةً لسرعة الحِسَابِ فيها على الباري تبارك وتعالى.وقيل: لأنَّ السَّاعة من الوَقْتِ الذي تقوم فيه القيامة؛ لأنها تَفْجأ الناس في ساعة لا يعلمها أحدٌ إلاَّ اللَّهُ تعالى.وقوله: {قالوا} هو جواب {إذا}.قوله: {يَا حَسْرَتَنَا} هذا مجازٌ؛ لأن الحَسْرَةَ لا يتأتى منها الإقْبَالُ، وإنَّما المعنى على المُبَالغَةِ في شِدَّةِ التَّحَسُّرِ، وكأنهم نادوت التحسُّر، وقالوا: إن كان لك وَقْتٌ، فهذا أوانُ حضورك.ومثله: {يا ويلتا} والمقصودُ التنبيهُ على خطأ المنادي، حيث ترك ما أحْوَجَهُ تركه إلى نداء هذه الأشياء.قال سيبويه رحمه الله: فيكون المنادي هو نفس الحَسْرَةِ، والمُراَدُ بالحَسْرَةِ النَّدَامَةُ.قال الزَّجَّاج رحمه الله تعالى: هذا النِّدَاءُ ينبِّهُ الناس على ما سيحصل لهم من الحَسْرَةِ، والعربُ تعبر عن تعظيم أمثال هذه الأمور باللَّفظَةِ كقوله تبارك وتعالى: {ياحسرة عَلَى العباد} [يس: 30] {يا حسرتى على مَا فَرَّطَتُ فِي جَنبِ الله} [الزمر: 56] {يا ويلتى أَأَلِدُ} [هود: 72] و{يا أسفى} [يوسف: 84] والمعنى: يا أيها النَّاس تَنَبَّهُوا على ما وَقَعَ من الأسَفِ، فوقع النداءُ على غير المنادى في الحقيقة.قوله: {عَلَىَ مَا فَرَّطْنَا} متعلّق بالحسرة و{ما} مَصْدريَّةٌ، أي: على تفريطنا، والضمير في {فيها} يجوز أن يعود على السَّاعِةِ، ولابد من مضاف، أي في شأنها والإيمان بها، وأن يعود على الصِّفَقَةِ المتضمِّنة في قوله: {قّدْ خَسِرَ الَّذين}، قاله الحسن، أو يعود على الحياة الدينا، وإن لم يَجْرِ لها ذِكُرٌ لكونها مَعْلُومَةَ، قاله الزمخشري رحمه الله تعالى.وقيل: يعود على مَنَازِلِهْم في الجنَّةِ إذا رأوها، وهو بَعِيدٌ.والتفريطُ: التقصير في الشيء مع القُدْرَةِ على فعله.وقال أبو عُبَيْدِ: هو التَّضْييعُ.وقال ابن بَحْرِ: وهو السَّبْقُ ومنه الفارط، أي: السَّبق للقوم، فمعنى فَرَّط بالتشديد خَلَّى السَّبْقَ لغيره، فالتضعيف فيه للسَّلْبِ، كجلَّدت البعير ومنه: {فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ} [الإسراء: 79].قوله: {وَهُمْ يَحْمِلُونَ} الواو للحال، وصَاحِبُ الحال الواو في {قالوا} أي: قالوا: يا حَسْرَتَنَا في حالةِ حَمْلِهِمْ أوْزَارَهُمْ.وصُدِّرت هذه الجملة بصمير مبتدأ؛ ليكون ذِكْرُهُ مَرَّتين فهو أبْلَغُ.والحَمْلُ هنا قيل: مجازٌ عن مُقَاساتِهِمُ العذابَ الذي سَبَبُهُ الأوْزَارُ.قال الزَّجَّاجُ: كما يُقَال: ثقل عليّ كلام فلان والمعنى: كرهته.وقيل: هو حقيقة وفي الحديث: «إنَّهُ يُمَثَّلُ لَهُ عَمَلُهُ بِصُورَةٍ قَبِيْحَةٍ مُنْتِنَةِ الرِّيح فَيَحمِلُها» وهو قول قتادَةَ، والسُّدي، وخُصَّ الظَّهْرُ، لأنه يُطيق من الحَمْل ما لا يُطِيقُهُ غيره من الأعْضَاءِ كالرأس والكَاهِل، وهذا كما تقدم في قوله: {فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ} [الأنعام: 7]، {فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ} [آل عمران: 187] لأن اليد أقوى في الإدراك اللَّمْسِيِّ من غيرها.والأوزَارُ: جمع وِزْر كحِمْل وعِدْل وأعْدَال.والوِزْر في الأصل الثقل، ومنه،: وَزَرْتُهُ، أي: حَمَّلته شَيْئًا قليلًان ووزير الملك من هذا؛ لأنه يَتَحَمَّلُ أعْبَاء ما قَلَّدّهُ المَلِكُ من مئونة رعيَّته وحَشَمَتِه ومنه أوْزَارُ الحرب لسلاحها وآلاتها، قال القائل في ذلك: [المتقارب] وقيل: الأصل في ذلك الوَزَرُ بفتح الواو والزاي، وهو المَلْجأ الذي يُلْتَجَأُ إليه من الجَبَلَ، قال تعالى: {كَلاَّ لاَ وَزَر} [القيامة: 11] ثمَّ قيل للثقل: وَزْرٌ تَشْبيهًا بالجَبَلِ، ثم اسْتُعِيرَ الوِزْرُ إلى الذَّنْبِ تشْبيهًا به في مُلاقَاةِ المَشَقَّةِ، والحاصلُ أنَّ هذه المادة تَدُلُّ على الرَّزَانَةِ والعَظَمَةِ.قوله: {ألا سَاءَ ما يزِرُونَ} {ساء} هنا تحتمل أوجهًا ثلاثة:أحدهما: أنها ساء المُتَصَرِّفَةُ المتعدِّيَةُ، ووزنها حينئذٍ فَعَل بفتح العين، ومفعولها حينئذٍ محذوفٌ، وفاعلها ما.وما تحتمل ثلاثة أوجه:أن تكون موصولةً اسميةً، أو حرفية، أو نكرة موصوفة، وهو بعيد، وعلى جعلها اسمية أو نكرة موصوفة تقدّر لها عائدًا، والحرفية غير محتاجة إليه عند الجمهور.والتقدير: ألا سَاءهُمُ الذي يَزِرُونَهُ، أو شيء يزرونه، أو وزْرُهُمْ وبدأ ابن عطية بهذا الوجه؛ قال: كما تقول: ساءني هذا الأمر، والكلام خبر مجرد كقوله: [البسيط] قال أبو حيان: ولا يتعين أن تكون ما في البيت خبرًا مجردًا، بل تحتمل الأوجه الثلاثة وهو ظاهر.الثاني: أن يكون للتعجُّب، فتنتقل من فَعَل بفتح العين إلى فعُل بضمها، فتعطى حكم فعل التَّعَجُّب من عدم التصرف، والخروج من الخبر المَحْضِ إلى الإنشاء إن قلنا: إن التعجُّب إنشاء، وهو الصحيح، والمعنى: ما أسْوَأ، أي: أقبح الذي يزرونه، أو شيئًا يزرونه، أو وِزْرُهم.الثالث: أنها بمعنى بئس فتكون للمُبَالَغَةِ في الذَّمِّ فتعطى أحكامها أيضًا، ويجري الخِلافُ في ما الواقعِة بعدها حَسْبَما ذكر في {بِئْسَمَا اشتروا بِهِ} [البقرة: 90] وقد ظهر الفَرقُ بين الأوجه الثلاثة، فإنها في الأوَّل متعدّية متصرّفة، والكلام معها خَبَرٌ مَحْضٌ، وفي الأخيرين قَاصِرَةٌ جامدة إنشائية.والفرق بين الوجهين الأخيرين أنَّ التعجبيَّة لا يُشْتَرَطُ في فاعلها ما يشترط في فاعل بئس.وقال أبو حيَّان: والفَرْقُ بين هذا الوجه يعني كونها بمعنى بئس، والوجه الذي قبله- يعني كونها تعجبيَّةً- أنه لا يُشْتَرَطُ فيه ما يشترط في فاعل بئس من الأحكام، ولا هو جملةٌ منعدةٌ من مبتدأ وخبر، إنما هو منعقد من فعل أو فاعل انتهى، وظاهره لا يظهر إلاَّ بتأويل، وهو أن الذم لابد فيه مَن مَخْصوص بالذَّمِّ، وهو مبتدأ، والجملة الفعلية قبله خبره فانعقده من هذه الجملة مبتدأ وخبر.إلا أنَّ لقائلٍ أن يقول: إنما يَتَأتَّى هذا على أحَدِ الأعَارِيبِ في المخصوص وعلى تقدير التَّسْليم، فلا مَدْخَلَ للمخصوص بالذَّمِّ في جملة الذَّمِّ بالنسبة إلى كونها فَعْلِيَّة، فحينئذٍ لا يظهر فَرْقٌ بينها وبين التَّعجبية في أنَّ كُلاَّ منهما منعقدةٌ من فَعلٍ وفاعل.قال ابن عباس رضي الله عنهما: بئْسَ الحمْلُ حَمَلُوا. اهـ. باختصار.
|